سورة الزخرف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وجعلوا} أي: المشركين {له من عباده جُزْءاً} حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له، وبعضاً منه، كما يكون الولد لوالده جزءاً. وهذا متصل بقوله {ولئن سألتهم...} إلخ، أي: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض لَيَعترفن به، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف، من عباده جُزءاً، وعبَّر بالجزء لمزيد استحالته في حق الواحد الأحد، من جميع الجهات. وقرأ أبو بكر وحماد بضمتين. {إنَّ الإِنسانَ لكفور مبين}؛ لَجَحود للنعمة، ظاهر الكفران، مبالغ فيه؛ لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر. والكفر أصل الكفران كله.
ثم ردّ عليهم بقوله: {أمِ اتخذَ مما يخلُق بناتٍ وأصْفَاكم بالبنينَ}، الهمزة للإنكار، تجهيلاً وتعجيباً من شأنهم، حيث ادَعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء، ولهم الأعلى، أي: بل اتخذ لنفسه أخس الصنفين، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى: هَبُوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه، مع استحالته وامتناعه، أمَا كان لكم شيء من العقل، ونبذة من الحياء، حتى اجترأتم على التفوُّه بهذه العظيمة، الخارقة للمعقول، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما، وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير {بنات}، وتعريف {البنين} لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة.
وجملة: {وأصفاكم}: إما عطف على {اتخذ}، داخل في حكم التعجيب والإنكار، أو: حال من فاعله، بإضمار قد، أو: بدونه، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ.
ثم قرّره بقوله: {وإِذا بُشِّر أحدُهُم بما ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي: وإذا أُخبر أحدُهم بولاده ما جُعل مثلاً له سبحانه، وهي الأنثى، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله، وجزءاً منه؛ إذ الولد لا بد أن يُجانس الوالِد ويشابهه. {ظَلَّ وجهُهُ مُسوداً وهو كظيمٌ} يعني: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومِن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: قد وُلدت لك بنت، اغتمّ، واربدّ وجهه غيظاً وتأسُّفاً، وهو مملوءٌ من الكرب. والظلول: بمعنى الصيرورة، أي: صار أسود في الغاية من سوء ما بُشر به.
{أوَ مَن ينشأ في الحِلْيةِ وهو في الخصام غير مُبينٍ} أي: أو يَجْعَلُ للرحمن من الولد مَن هذه الصفة المذمومة صفته، وهو أنه ينشأ في الحلية، أي: يتربّى في الزينة والتخنُّث، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم، ومجاراة الرجال، كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان؛ لضعف عقولهن. قال مقاتل: لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها- أي: في الغالب- وفيه: أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب. فعلى الرجل أن يجتنبَ ذلك، له ولأولاده، ويتزين بلباس التقوى. و {مَنْ} منصوب المحل، أي: أوَ جعلوا مَن يربى في الحلية- يعني البنات- لله عزّ وجل.
وقرأ الأخَوان وحفص؛ {يُنشَّأُ} أي: يُربّى.
{وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إِناثاً} أي: اعتقدوا الملائكة وسموهم إناثاً. وهو بيان لتضمُّن كفرهم كفراً آخر، وتقريع لهم بذلك؛ وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله- عزّ وجل- أنقصهم رأياً. والعندية عندية منزلة ومكانة، لا مكان. ومَن قرأ {عبِاد} فجمع {عبد}، وهو ألزم في الاحتجاج مع أهل العناد لتضاد العبودية والولادة. {أَشَهِدوا خلقَهم} أي: أَحضروا خلقهم، فشاهدوا الله حين خلقهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتهم، فإنّ ذلك لا يُعلم إلا بالمشاهدة، وهو تجهيل لهم، وتهكُّم بهم. وقرأ نافع بهمزتين، أي: أاحضروا خلقهم. {ستُكتبُ شهادتُهم} التي شهدوا بها على الملائكة من أنهم إناث، في ديوان أعمالهم. {ويسألونَ} عنها يوم القيامة، وقرئ: شهاداتهم وهي قولهم: إن لله جزءاً من خلقه، وإن لله بنات، وأنها الملائكة.
الإشارة: وجعلوا له من عباده جزءاً، أشركوا في المحبة معه غيره، والمطلوب: إفراد المحبة للمحبوب، فلا يُجب معه شيئاً. إن الإنسان لكفور مبين، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد، وأنه غيور، لا يرضى لعبده أن يُحب معه غيره.
قال القشيري: جعلوا الملائكة جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته. اهـ. أي: جعلوا له جزءاً من عين الفرق، ولو نظرا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت. وفي الآية تحذير من كراهية البنات، حيث جعله من نعت أهل الكفر.


يقول الحق جلّ جلاله: {وقالوا لو شاء الرحمنُ} عدم عبادتنا للملائكة {ما عبدناهم}، أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه مَرْضِي عنده تعالى، ولولا ذلك ما خلّى بينهم وبينها، ويُجاب: بأنه تعالى قد يخلي بين العبد ومعصيته، لينفذ فيه ما سبق من درك الوعيد. وتعلقت المعتزلة بظاهر الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكفار، وإنما شاء الإيمان، فإنّ الكفار ادّعوا أن الله شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام، حيث قالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} أي: لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمَنَعَنَا عن عبادتها، لكنه لم يشأ ذلك. والله تعالى ردّ عليهم قولهم، واعتقادهم، بقوله: {ما لهم بذلك} القول {من علم إِن هم إِلا يَخْرُصُون}: يكذبون، ومعنى الآية عندنا: أنهم أرادوا بالمشيئة: الرضا، وقالوا: لو لم يرضَ بذلك لعجّل عقوبتنا، ولمَنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك، فردَّ الله عليهم بقوله: {ما لهم بذلك من علم...} الآية. أو: قالوا هذا القول استهزاء، لا جدّاً واعتقاداً، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقاداً، كما قالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]. وهذا كلام حق أرادوا به باطلاً: انظر النسفي.
قلت: ما تمسّكوا به من قوله: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} من الاحتجاج بالقدر، وهو لا ينفع هذه الدار، لأنه من التمسُّك بالحقيقة الخالية عن الشريعة، وهي بطالة وزندقة، ولذلك ردّهم الله تعالى إلى التمسُّك بالشريعة بقوله: {أم آتيناهم كتاباً مِن قبله}؛ من قبل القرآن، أو: من قبل ادعائهم ذلك، ينطق بصحة ما يدّعونه، {فهم به مسْتَمْسِكون}؛ آخذون.
{بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ}؛ على دين وقلّدناهم. والأمّة في الأصل: الطريقة التي تؤمّ وتُقصد {وإِنا على آثارهم مُقتدون} أي: لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. والظرف: صلة لمهتدون، أو: هما خبران.
{وكذلك ما أرسنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ}؛ من نبيّ {إِلا قال مُترفوها} أي: منغّموها، وهم الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم، فلا يُحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاقَّ الدين وتكاليفه، قالوا: {إِنا وجدنا آباءنا على أُمةٍ وإِنا على آثارهم مقتدون}، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن التقليد فيهم ضلالٌ قديم. وتخصيص المترفين بتلك المقالة؛ للإذيان بأن التنعُّم بالشهوات، وحب البطالة، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد.
{قُلْ}، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم، عند تعللهم بتقليد آبائهم، أي: قيل لكل نذير وأوحي إليه: أن قُلْ، وليس خطاباً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- بدليل ما بعده من قوله: {قالوا...} إلخ. وقيل: خطاب له عليه الصلاة والسلام، فتكون الجملة معترضة بين قصة المتقدمين؛ لأن قوله: {قالوا} راجع للمتقدمين، وقرأ الشامي وحفص: {قال} أي: النذير: {أوَ لَو جئتُكُم} أي: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم {بأهدى}؛ بدين أهدى {مما وجدتم عليه آباءكم} من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء؟ {قالوا إِنا بما أُرسلتم به كافرون} أي: قالت كل أمة لنذيرها: إنا ثابتون على ديننا، وإن جئتمونا بما هو أهدى وأهدى. وقد أجمل عند الحكاية؛ للإيجاز، كقوله: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].
{فانتقمنا منهم}؛ فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم، {فانظر كيف كان عاقبةُ المكذِّبين} من الأمم المذكورين، فلا تكترث قومك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، تمسّكوا بالحقيقة الظلمانية، الخالية عن التشريع، وهو كفر وزندقة، ولذلك ردّ الله عليهم بقوله: {أم آتيناهم كتاباً...} إلخ، وترى كثيراً ممن خذله الله يقول: لو أراد الله هدايتي لهداني، ولا ينفع ذلك في هذه الدار، التي هي التكليف، بل يجب عليه النهوض، والقصد إلى أمر الله به، من حقوق العبودية، فإن منعته الأقدار فلينظر إلى الواحد القهّار، وإلا فالشقاء لازم له. وقد قالوا: مَن تحقق ولم يتشرّع فقد تزنذق، ومَن تشرَع ولم يتحقق فقد تفسّق، ومَن جمع بينهما فقد تحقّق. فالواجب: النظر إلى تصريف الحقيقة في الباطن، والتمسُّك بالشريعة في الظاهر. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة...} الآية، فيه توبيخ لمَن تجمّد على تقليد أسلافه، وقد ظهر مَن هو أهدى منهم، ففيه نزعة جاهلية، وحمية من حميتهم.


يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ قال إبراهيمُ} أي: واذكر وقت قوله عليه السلام {ولأبيه وقومه} المُنكّبين على التقليد، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: {إِنني بَرَاء} أي: بريء {مما تعبدون}، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، أو: ليقلدوه، إن لم يكن لهم بُد من التقليد؛ فإنه أشرف آبائهم. و {برَاء}: مصدر، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كرجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل. و ما: إما مصدرية، أو: موصولة، أي: بريء من عبادتكم ومن معبودكم {إِلا الذين فَطَرَني}؛ استثناء متصل، أو: منقطع، على أن ما تعم أُولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام، او: صفة، على أن ما موصوفة، أي: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي {فطرني}؛ خلقني {فإِنه سيَهدين}؛ يثبتني على الهداية، أو: سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن. والأوجه: أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.
{وجعلها} أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها، وهي قوله: {إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني}، {كلمة باقية في عَقِبهِ} أي: في ذريته، حيث وصَّاهم بها، كما نطق به قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...} [البقرة: 132]، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى، ويدعوهم إلى توحيده. {لعلهم يرجعون} أي: جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد.
{بل متعتُ هؤلاء}، ضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم، فلم يحصل ما رجاه، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. {وآباءهم} بالمد في العمر، والنعمة، والمهلة، فاغترُّوا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد، {حتى جاءَهم الحقُّ}؛ القرآن {ورسولٌ مبينٌ}؛ ظاهر الرسالة، واضحها بالمعجزات الباهرة، أو: مبين التوحيد. بالآيات والحجج القاطعة.
وفي الآية توبيخ لهم، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر، والثبات على التوحيد والإيمان، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال.
وحاصل معنى الآية: أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك، نسلاً بعد نسل، فيرجع المشرك عن شركه، فلم يرجعوا، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق، فكفروا وأصرُّوا، {ولمَّا جاءهم الحقُّ} أي: القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة، ويُرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا كفراً وعُتواً، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به، حيث {قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون} فسَمّوا القرآنَ سحراً، وجحدوه ومَن جاء به.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد، لقوله تعالى: {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلى يوم القيامة، وهو على قسمين: توحيد البرهان، وتوحيد العيان. وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معاً، وقام بها خلقاؤهم بعدهم، فقام بالأول العلماء، وقام بالثاني خواص الأولياء، أهل التربية الحقيقية، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية، والحظوظ الفانية، كما قال الششتري رضي الله عنه:
ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا *** مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى
وكل مَن تمتع بذلك، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين؛ إذ يمنعه ذلك من حط رأسه، ودفع فلسه، فينخرط في سلك قوله تعالى: {بل متعتُ هؤلاء وآباءهم...} الآية. وكل زمان له رسول، خليفةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6